مقدمة كتاب ساتبرم ” إعداد إنسان المستقبل “

مقدمة كتاب ساتبرم ” إعداد إنسان المستقبل “سبة لنا، لو كنا نعرف كيف نذهب إلى صميم الأمور. ولكن ما هو هذا الصميم، إن لم يكن كل ما نعتبره، بمفهومنا الآدمي، جميلاً وصادقاً وصالحاً؟ في يوم من أيا

“عسانا نكتشف في داخلنا
عندما يفشل كل شيء آخر
مفتاح التغير الكامل ”
شري أوروبيندو

لا توجد هنا أسرار غامضة، بل أن الأمر بسيط للغاية، وهذه البساطة المفرطة هي السبب في أننا لا نكتشف السر. ما يسري في أي مكان من العالم يسري في كل مكان؛ هذه حقيقة بدأ علماء الرياضيات و الطبيعة حديثاً في فهمها، حقيقة يعرفها جيداً الأطفال عندما يبتسمون للأمواج على الشواطئ المشمسة ويتأملون الزبد الذي تحمله هذه الأمواج ذهاباً وإياباً منذ آجال سحيقة تبعاً لإيقاعٍ ينبع من ذكريات الأيام والآلام التي مضت ونُسِجَت في قصة واحدة، قصة لا تتغير نعيشها على الدوام، إيقاعٍ يشمل كل شيء حتى حركة النورس وهو ينزلق على الماء. كل ثانية من الزمان تُمَثِّـل كل العصور وتحتوي جميع الأشياء والأرواح في تلك النقطة البسيطة التي تبرق على الأمواج. ولكننا فقدنا للأسف الصلة بهذه النقطة كما أضعنا تلك البسمة الصادحة. صحيح أننا حاولنا جاهدين ان نسترجع الوحدة المفقودة بعملية إضافة وجمع: 1 + 1 + 1. . . كنا نظن أن حاصل جمع كل المعارف الممكنة على جميع النقاط الممكنة سينتهي بأن يعطينا تلك النغمة الوحيدة الصحيحة التي تحرك العوالم وتبهج قلوب الأطفال. ولكننا أردنا أيضاً أن نشكل هذه النغمة لتوافق جميع الأمزجة. ثم اكتشفنا أننا كلما استكثرنا من الحسابات ومن الأزرار التي نضغط عليها لتسهل لنا الحياة، كلما ابتعد عنا الطائر الجميل وكلما تكدرت البسمات على وجوه الأطفال وتلوثت الرغوة الجميلة على أمواج البحار. والآن بلغ بنا الحال أننا لم نعد حتى واثقين من أننا ما زلنا نمتلك أبداننا نفسها ― لقد طغت الآلــة وابتلعت كل شيء.

هذا السر البسيط للغاية هو أيضا القوة الوحيدة التي تحكم كل شيء، ومتى فهمنا هذه الحقيقة، نفهم كل شيء. حتى الأطفال لا يجدون صعوبة في فهمها ويشعرون في لعبهم أنهم ملوك وأبطال لا يقدر أي شيء على أن يمسهم. ولكن الأطفال تكبر ― وتنسى. وهكذا تكبر الرجال، وتكبر الأمم والحضارات ويحاول كل منهم أن يكتشف السر العظيم البسيط على طريقته الخاصة: إما بالسلاح، أو بالغزوات، أو بالتأمل، أو بالسحر، أو بالجَمَال، أو بالتدين أو بالعلم.

نحن، في الحقيقة، لا ندري حق المعرفة أي تلك الفئات من الناس أكثر تقدماً: أهم البناؤون الإغريق الذين بنوا الأكروبوليس في أثينا، أم الكهنة الذين مارسوا السحر في الأقصر، أم هم رواد الفضاء المحدثون في كاب كينيدي، أم هم الرهبان في أديرتهم؟ ففي حين نبذ بعضهم الحياة ليفهموها حق فهمها، انهمك البعض الآخر في الحياة كل الانهماك ولم يهتموا بفهمها، وفي حين ترك البعض لنا آثاراً فنية رائعة، لم يخلف البعض الآخر وراءهم إلا خيطاً من دخان أبيض في سماء صافية… كل الفرق بيننا وبينهم هو أننا آخر من ظهر على قائمة الزمان وأننا لم نتقن بعد السحر كما أتقنوه. وفي الأثناء، لم تزل النقطة المتلاشية في الصغر، المتناهية في القوة، تلمع على شواطئ العالم لكل من له عينان، تلمع تماماً كما كانت تفعل قبل ظهور الإنسان على سطح هذا العالم.

فيما يبدو كان بعضهم على قدر من الإلمام بالسر: مثلاً الإغريق وقدماء المصريين وتأكيداً حكماء الفيدا في الهند. ولكن الأسرار، مثلها مثل زهور الأشجار، لها مواسمها ونموها البطيء وازدهارها المفاجئ. فكل شيء له أوانه، حتى تلاقي النجوم في السماء وتحليق النورس فوق الصخرة التي تغطيها رغاوي الأمواج، بل وربما أيضا حتى نطفة الزبد التي تتطاير لحظياً من الموجة وتتلاشى. كل هؤلاء يتحركون تبعاً لشعيرة واحدة.. كذلك السر أيضاً، الذي هو في أساسه معرفة وقوة له ميقات. ولكن الخلية الواحدة إذا سبقت في التطور سائر الخلايا من حولها، لا تقدر على تجسيد قوتها ومعرفتها وإحداث تغيير في العالم والمساهمة في ازدهار الشجرة العظيمة. لكي تقدر على ذلك يجب أن تبلغ الخلايا المحيطة بها درجة كافية من التطور…

لقد حان الوقت.

فقد ظهر وعي جديد لا يمكن تجاهل علاماته في أماكن كثيرة من الأرض، حتى وإن كانت الزهرة الخفية ما زالت تبدو أحيانا كالدمل الصديدي: فنرى الطلاب في كالكوتا يطيحون برأس تمثال غاندي، ونرى الآلهة القديمة تتهاوى، ونرى المثقفين الأذكياء يطالبون بالهدم ويستعينون بالهمج الغرباء على تدمير السجون التي يعيشون فيها، ويفعلون تماماً مثل ما كان فعل الرومان القدماء؛ ونرى البعض يلوذون بجنات كيميائية من صنع أذهانهم ― يبدو أن أي طريق من الطرق، في نظر هؤلاء جميعاً، أفضل من الحال الذي نعيش فيه حالياً. فالأرض أصبحت تئن وتلهث من كل ثغرة وشرخ ومن كل خلية في بدنها الضخم الذي يعاني من عملية التحول. أرضنا لن تنهض إلا عن طريق ميلاد جديد وتَحَوُّل لا نعرف بعد كيف نقوم به. نحن نمر الآن بأزمة جديدة من أزمات التطور والارتقاء لا تقل حدة عن الأزمة التي خاضها الإنسان الأول عندما ظهر لأول مرة بين القردة.

وبما أن الأرض لها بدن واحد، فإن العلاج أيضاً واحد، مثله مثل الحقيقة، وعندما ننجح في تحويل نقطة واحدة، تتحول جميع النقاط الأخرى. ولكننا لن نجد هذه النقطة بمجرد إدخال تعديلات على قوانينا أو أجهزتنا أو علومنا أو أدياننا أو مدارسنا أو أي من مذاهبنا متعددة الألوان والأشكال . . . فكل هذه الأشياء تنتمي إلى الآليات التي بلت. لم تعد هناك صواميل نستطيع اضافتها أو إعادة تصميمها أو إحكام شدها لكي نحل مشاكلنا، فنحن قد أصبحنا على وشك الاختناق. كذلك لا يكمن الحل في رفع مستوى ذكائنا، فهذا الذكاء هو الذي اخترع أساساً الآلة المهولة التي نعاني منها ، كما لا يكمن الحل حتى في تحسين الإنسان نفسه، لأن ذلك لا يؤدي في آخر المطاف إلا إلى تمجيد نقاط ضعفه والإشادة بتحقيقاته السابقة. “الإنسان الحالي بنقائصه ليس كلمة الطبيعة الأخيرة،” على حد قول شري أوروبيندو، “كما أن كماله ليس القمة القصوى التي سيقف الروح عندها.” هذه النقطة وهذا السر ينتميان إلى مستقبل يتخطى عقولنا وذكاءنا ولكنه ينمو حثيثاً في أعماق كياننا كما تنمو زهور شجرة البونسيانا بعد سقوط أوراقها.

المستقبل لن يظل مغلقاً بالنسبة لنا، لو كنا نعرف كيف نذهب إلى صميم الأمور. ولكن ما هو هذا الصميم، إن لم يكن كل ما نعتبره، بمفهومنا الآدمي، جميلاً وصادقاً وصالحاً؟ في يوم من أيا
م ماضٍ سحيق، خرجت الزواحف مم ماضٍ سحيق، خرجت الزواحف من الماء وحاولت الطيران، ثم مرت آجال طويلة وخرجت القردة من الغابة ونظرت متعجبة إلى العالم من حولها وسعت إلي الانتصاب على قدمين. في كلتا الحالتين كان هناك نفس الدافع وهو الرغبة في بلوغ حالة جديدة. ربما كانت قوة التطور والارتقاء والتَحَوُّل متضمنة في هذا الدافع وهذه الرغبة التي ستفتح بوابات المستقبل وتطلق العنان لفيضانه.

هذه النقطة التي تحتوي كل شيء وتقدر على كل شيء، هي شرارة من الــذات المتوهجة الواحدة والمتعددة التي تضيء في قلوب جميع الناس والأشياء، وتبرق في كل نقطة في الفضاء، في كل لحظة من الوقت، وفي كل نطفة من الزبد، هذه الــذات التي تتفوق دائماً على ما كانت عليها قبل كسر من الثانية.

المستقبل سيكون للذين يهبون أنفسهم كلياً للمستقبل.

نحن نقول أن هناك مستقبل أروع من جميع المباهج الإلكترونية التي ابتكرها الذهن: فالإنسان ليس نهاية المطاف، تماماً كما أن الأركيوبتركس لم يكن نهاية الزواحف وقمتها ― أظَـنـنَـّا أن موجة التطور العظيمة ستتوقف عند حد الإنسان؟! مع أننا نبتكر باستمرار آلات أفضل ونتخطى ظاهرياً حدودنا البشرية ونتعمق في الفضاء حتى كدنا نبلغ المشترى والزهرة، نرى أننا لم ننجح إلا في خلق جو يخنقنا وفي أن نرسل إلى أطراف الكون بعض البشر المساكين الذين لا يعرفون حتى كيف يعتنون بأمثالهم ولا يدرون إن كانت كهوفهم الأرضية تحتوي وحوشاً أم أطفالاً باكية. نحن لا نتقدم، بل أننا ننفخ في بالون ذهني هائل أغلب الظن أنه سوف ينفجر قريباَ في وجوهنا. نحن لم نرتق بالإنسان، بل إن كل ما فعلناه هو أننا جعلناه عملاقاً مهولاً. كل ذلك كان متوقعاً ولا مفر منه، فالقصور لا يكمن في فضائلنا أو في عقولنا لأننا لو ذهبنا بهذه الفضائل وهذه العقول إلى أقصى مداها، فإن النتاج الحتمي سيكون “قديسين فائقين” أو “آلات فائقة”: أو بالأصح أشياء ممسوخة. فالزواحف في جحورها، حتى لو بلغت القدسية، لا تمثل تقدماً في التطور والارتقاء، مثلها في ذلك مثل الرهبان القدسيون. دعنا نترك كل ذلك جانباً. في الحقيقة، بلوغ القمة في أي شيء لا يكون ببلوغ الكمال النوعي لهذا الشيء، بل يكون ببلوغ “شيء من نوعية أفضل”، كان الشيء الأول يطمح بكل قوته في بلوغه. هذا هو قانون التطور والارتقاء. الإنسان ليس نهاية المطاف، بل إنه “كائن انتقالي” كما كان شري أوروبيندو يقول دائماً، وهو يتطور في طريقه نحو “ما بعد الإنسان”، تماماً مثل ما تتطور أصغر الغصينات في أعلى فروع شجرة المانجو تبعاً لتعليمات تحتويها البذرة التي نمت منها الشجرة. مهمتنا الأولى وشغلنا الشاغل والسؤال الذي يجب أن ندرسه على مدى الأجيال والذي يهدد الآن بإغراق سفينتنا الأرضية ― يجب أن تكون: كيف نحقق هذا الانتقال؟

الفيلسوف نيتشه نادى بشيء شبيه، ولكن “إنسانه الفائق” لم يكن إلا تضخيماً للإنسان الحالي، وقد شاهدناه يكتسح أوروبا [في هيئة نازية]. هذا لم يكن بالطبع تقدماً في التطور، بل رجوعاً إلى الهمجية القديمة لبهيمية الأنانية البشرية أياً كانت عناصرها وألوانها. لسنا بحاجة إلى مثل هذا “الإنسان الفائق”، وإنما ما نحتاجه هو كائن جديد بدأ يتحرك في قلوب الناس بالفعل، كائن يختلف عن الإنسان العادي بنفس درجة اختلاف موسيقى المؤلف بـاخ السامية من نخير أسلاف الإنسان. وفي الحقيقة، حتى موسيقى بـاخ نفسها ستبدو قاصرة عندما تعتاد آذاننا الداخلية سماع أنغام المستقبل.

هذا هو الانفتاح وتلك هي عملية الانتقال الذين نريد أن ندرسها في ضوء ما تعلمناه من شري أوروبيندو ومن شريكة عمله المعروفة باسم الأم. فهي قد خططت لنا عملية الانتقال بكل حذافيرها بأمل أن نبدأ منهجياً في العمل على تحقيق تطورنا الذاتي بدلاً من أن نحاول تكوين أجنة في أنابيب اختبار تعطينا في نهاية المطاف كائنات ممسوخة تكون مرآة لنواحي ضعفنا.

ســر الحياة لا يكمن في الحياة نفسها، كما أن ســر الإنسان لا يكمن في الإنسان نفسه، تماماً كما أن “ســر زهرة اللوتس لا يكمن في الوحل الذي تنمو منه”، على حد قول شري أوروبيندو. الوحل يستعين بالنور أي بضوء الشمس في خلق درجة أعلى من التناسق والجمال. نقطة التلاقي هذه التي يحدث فيها التحول هي النقطة التي يجب أن نكتشفها، وعندئذ ربما نكتشف مرة أخرى السر الذي يفهمه الطفل الوديع وهو يلعب على الشاطئ ويتأمل زبد الأمواج، كما نكتشف الموسيقى الأسمى التي تنسج العوالم. عندئذ سوف تتحقق الأعجوبة الرائعة التي كانت تنتظر حينها.

وما كان يبدو مستحيلاً على الإنسان، يصبح في بساطة لعب الأطفال.

داخل -

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*